فصل: باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **


باب قول تعالى

‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 60‏]‏ الآيات

هذا الباب له صلة قوية بما قبله، لأن ما قبله فيه حكم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وهذا فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله، وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات‏:‏

* الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر‏)‏‏.‏

الاستفهام يُراد به التقرير والتعجب من حالهم، والخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك‏)‏‏.‏ هذا يُعيّن أن يكون الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا، ولم يقل الذين آمنوا، لأنهم لم يؤمنوا، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون‏.‏

والذي أُنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكتاب والحكمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏، قال المفسرون‏:‏ الحكمة السنة، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم، حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى الطاغوت‏)‏‏.‏ صيغة مبالغة من الطغيان، ففيه اعتداء وَبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله، أما الطاغوت بالمعني الأعم، فقد حَدَّه ابن القيم بأنه‏:‏ ‏"‏ كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع ‏"‏، وقد تقدَّم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد أُمروا أن يكفروا‏)‏‏.‏ أي أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرًا ليس فيه لبس ولا خفاء، فمن أراد التحاكم إليه، فهذه الإدارة على بصيرة، إذ الأمر قد بين لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويريد الشيطان‏)‏‏.‏ جنس يشمل شياطين الإنس والجن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يضلهم ضلالًا بعيدًا‏)‏‏.‏ أي‏:‏ يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة، ولكن بالتدريج‏.‏

فقوله‏:‏ ‏(‏بعيدًا‏)‏‏.‏ أي ليس قريبًا، لكن بالتدريج شيئًا فشيئًا حتى يوقعهم في الضلال البعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلي الرسول‏)‏‏.‏ أي‏:‏ قال لهم الناس‏:‏ أقبلوا ‏(‏إلى ما أنزل الله‏)‏ من القرآن ‏(‏وإلي الرسول‏)‏ نفسه في حياته وسنته بعد وفاته، والمراد هنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه في حياته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا‏)‏ الرؤية هنا رؤية حال لا رؤية بصر، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏تعالوا‏)‏، فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده‏.‏

والمعني‏:‏ كأنما تشاهدهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏رأيت المنافقين‏)‏‏.‏ إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد‏:‏

الأولى‏:‏ أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين‏.‏

الثانية‏:‏ أن هذا لا يصدر إلا من منافق، لأن المؤمن حقًا لابد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صدود‏.‏

الثالثة‏:‏ التنبيه، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه، فإذا تغير، حصل له انتباه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏رأيت المنافقين‏)‏ جواب ‏"‏ إذا ‏"‏، وكلمة ‏"‏ صد ‏"‏ تستعمل لازمة، أي‏:‏ يوصف بها الشخص ولا يتعداه إلى غيره، ومصدرها صدود، كما في هذه الآية، ومتعدية، أي‏:‏ صد غيره، ومصدرها صد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وصدوكم عن المسجد الحرام‏)‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا أحسانًا وتوفيقًا‏)‏‏.‏ الاستفهام هنا يراد به التعجب، أي‏:‏ كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعدم تضاد المعنيين‏.‏

فالدنيوية مثل‏:‏ الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك، فيأتون يشكون إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيقولون‏:‏ أصابتنا هذا المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق‏.‏

والشرعية‏:‏ إذا أظهر الله رسوله على أمرهم، خافوا وقالوا‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بما قدمت أيديهم‏)‏‏.‏ الباء‏:‏ هنا للسببية، ‏(‏ما‏)‏ اسم موصول، و‏(‏قدمت‏)‏ صلته، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل، أي‏:‏ بما قدموه من الإعمال السيئة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا‏)‏‏.‏ ‏(‏إن‏)‏ بمعني‏:‏ ‏"‏ ما ‏"‏، أي‏:‏ ما أردنا إلا إحسانًا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار، وتوفيقًا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإيمان، أي‏:‏ نمشي معكم ونمشى مع الكفار، وهذه حال المنافقين، فهم قالوا أردنا أن نحسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم‏)‏‏.‏ توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع، فالله علام الغيوب، قال تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه‏)‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة أن الله يحول بين المرء وقلبه، ولهذا قيل لأعرابي‏:‏ ‏"‏ بم عرفت ربك‏؟‏ قال‏:‏ بنقض العزائم، وصرف الهمم ‏"‏‏.‏

فالإنسان يعزم على الشيء ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة بدون سبب ظاهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأعرض عنهم‏)‏‏.‏ وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعظهم‏)‏‏.‏ أي‏:‏ ذَكَّرهم وخَوَّفهم، لكن لا تجعلهم أكبر همك، فلا تخافهم، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقل لهم في أنفسهم بليغًا‏)‏‏.‏ أختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ، أي قل لهم قولا بليغًا في أنفسهم، أي‏:‏ يبلغ في أنفسهم مبلغًا مؤثرًا‏.‏

الثاني‏:‏ أن المعني‏:‏ أنصحهم سرًا في أنفسهم‏.‏

الثالث‏:‏ أن المعني‏:‏ قل لهم في أنفسهم ‏(‏أي‏:‏ في شأنهم وحالهم‏)‏ قولًا بليغًا في قلوبهم يؤثر عليها، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة، لأن اللفظ صالح لها جميعًا، ولا منافاة بينها، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبيه لها، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض‏:‏ فإنه يؤخذ بجميع المعاني‏.‏

وبلاغة القول تكون في أمور‏:‏

الأول‏:‏ هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر‏.‏

وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خطب، احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيشًا، يقول‏:‏ صبَّحكم ومَسَّاكم ‏.‏

الثاني‏:‏ أن تكون ألفاظه جزلة مترابطة محدودة الموضوع‏.‏

الثالث‏:‏ أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان، بأن يكون كلامه‏:‏ سليم التركيب، موافقًا للغة العربية، مطابقًا لمقتضى الحال‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيميه‏:‏ ‏"‏إن هذه الآية تنطبق تمامًا على أهل التحريف والتأويل في صفات الله، لأن هؤلاء يقولون‏:‏ إنهم يؤمنون بالله ورسوله، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلي الرسول، يعرضون، ويصدون ويقولون‏:‏ نذهب إلى فلان وفلان، وإذا اعترض عليهم، قالوا‏:‏ نريد الإحسان والتوفيق، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع ‏"‏‏.‏ ذكره رحمة الله في الفتوى الحموية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون‏)‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏)‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أفحكم الجاهلية يبغون‏)‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏‏.‏

* الآية الثانية قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض‏)‏‏.‏

الإفساد في الأرض نوعان‏:‏

الأول‏:‏ إفساد حسي مادي‏:‏ وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك‏.‏

الثاني‏:‏ إفساد معنوي، وذلك بالمعاصي، فهي من أكبر الفساد في الأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 65-66‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما نحن مصلحون‏)‏‏.‏ وهذه دعوي من أبطل الدعاوى، حيث قالوا‏:‏ ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم المفسدون‏}‏‏.‏ ‏(‏ألا‏)‏‏:‏ أداة استفتاح، والجملة مؤكدة بأربع مؤكِّدات، وهي‏:‏ ‏(‏إلا‏)‏، و‏(‏إن‏)‏‏.‏ وضمير الفصل ‏(‏هم‏)‏‏.‏ والجملة الاسمية، فالله قابل حصرهم بأعظم منه، فهؤلاء الذين يُفسدون في الأرض ويدَّعون الإصلاح هم المفسدون حقيقة لا غيرهم

ومناسبة الآية للباب ظاهرة، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر أسباب الفساد في الأرض‏.‏

* الآية الثالثة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض‏}‏‏.‏ يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق‏.‏

* قوله‏:‏ ‏(‏بعد إصلاحها‏)‏‏.‏ من قبل المصلحين، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم والوقوف ضد دعوة السلف، والوقوف ضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏(‏بعد إصلاحها‏)‏ من باب تأكيد اللوم والتوبيخ، إذا كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة والخبث والشر‏؟‏ فالإفساد بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح، وإن كان المطلوب هو الإصلاح بعد الفساد‏.‏

* ومناسبة الآية للباب‏:‏ أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح، وأن التحاكم إلى غيره هو الإفساد‏.‏

* الآية الرابعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏‏.‏ الاستفهام للتوبيخ، و‏(‏حكم‏)‏‏:‏ مفعول مقدم لـ ‏(‏يبغون‏)‏، وقُدِّم لإفادة الحصر، والمعني‏:‏ أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية‏.‏

و‏(‏يبغون‏)‏‏:‏ يطلبون، والإضافة في قوله‏:‏ ‏(‏حكم الجاهلية‏)‏ تحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون، فيريدون أن يعيدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة، ومنها البحائر، والسوائب، وقتل الأولاد‏.‏

ثانيهما‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ أفحكم الجهل الذي لا يبنى على العلم يبغون، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أو لم تكن، وهذا أعم‏.‏

والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير‏.‏

وكل حكم يخالف حكم الله، فهو جهل وجهالة‏.‏

فإن كان مع العلم بالشرع، فهو جهالة، وإن كان مع خفاء الشرع، فهو جهل، والجهالة هي العمل بالخطأ سفهًا لا جهلًا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏، وأما مَن يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه، لكن عليه أن يتعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن من الله حكمًا‏}‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏:‏ اسم استفهام بمعنى النفي، أي‏:‏ لا أحد أحسن من الله حكمًا، وهذا النفي مُشرَب معني التحدي، فهو أبلغ من قوله‏:‏ ‏"‏ أحسن من الله حكمًا ‏"‏، لأنه متضمن للنفي وزيادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حكمًا‏)‏‏.‏ تمييز، لأنه بعد اسم التفضيل، وهو مبهم، فبيَّن هذا التمييز المبهم وميزه‏.‏

والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي‏.‏

فإن قيل يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها، فأين الحُسن في ذلك‏؟‏

أُجيب‏:‏ أن الغايات المحمودة في هذه الأمور تجعلها حسنةً، كما يضرب الإنسان ولده تربية له، فيعد هذا الضرب فعلًا حسنًا، فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 66‏]‏، وهذا الحسن في حكم الله ليس بينًا لكل أحد، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏لقوم يوقنون‏)‏، وكلما ازداد العبد يقينًا وإيمانًا ازداد معرفة بحسن أحكام الله، وكلما نقص إيمانه ويقينة أزداد جهلًا بحسن أحكام الله، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضًا، وعلى هذا، فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون‏}‏‏.‏ خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقًا، ولذلك هدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص، وقالوا‏:‏ ‏{‏كل من عند ربنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، وعرفوا حسن أحكام الله تعالى، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد، فلم يرضوا عنها بديلًا‏.‏

وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به‏)‏ ‏.‏ قال النووي‏:‏ ‏"‏ حديث صحيح، رويناه في كتاب ‏"‏ الحجة ‏"‏، بإسناد صحيح ‏"‏ ‏.‏

قوله في حديث عبد الله بن عمر‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم ‏)‏ ‏.‏ أي إيمانًا كاملًا إلا إذا كان لا يهوي ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالكلية، فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية، لأنه إذا كره ما أنزل الله، فقد حبط عمله لكفره، قال تعالى ‏{‏ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 9‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ حتى يكون هواه تبعًا لما جئب به ‏"‏‏.‏ الهوي بالقصر هو‏:‏ الميل، وبالمد هو‏:‏ الريح، والمراد الأول‏.‏

و‏"‏ حتى ‏"‏‏:‏ للغاية، والذي جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو القرآن والسنة‏.‏

وإذا كان هواه تبعًا لما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لزم من ذلك أن يوافقه تصديقًا بالأخبار، وامتثالًا للأوامر، واجتنابًا للنواهي‏.‏

واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا أهواءهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 14‏]‏، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه، ولكن إذا كان الهوى تبعًا لما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كان محمودًا، وهو من كمال الإيمان‏.‏

وقد سبق بيان أن مَن اعتقد أن حكم غير الله مساو لحكم الله، أو أحسن، أو أنه يجوز التحاكم إلى غير الله، فهو كافر‏.‏

وأما مَن لم يكن هواه تبعًا لما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإن كان كارهًا له، فهو كافر وإن لم يكن كارهًا ولكن آثر محبة الدنيا على ذلك، فليس بكافر، لكن يكون ناقص الإيمان‏.‏

قوله‏:‏‏"‏ قال النووي‏:‏ حديث صحيح ‏"‏‏.‏ صححه النووي وغيره، وضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن رجب في كتابه ‏"‏ جامع العلوم والحكم ‏"‏، ولكن معناه صحيح‏.‏

قوله في أثر الشعبي‏:‏ ‏"‏ وقال الشعبي‏"‏‏.‏ أي‏:‏ في تفسير الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ رجل من المنافقين ‏"‏‏.‏ هو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وسمي منافقًا من النافقاء، وهي جُحر اليربوع، واليربوع له جُحر له باب وله نافقاء - أي يحفر في الأرض خندقًا حتى يصل منتهي جحره ثم يحفر إلى أعلى، فإذا بقي شيء قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف، فإذا حُجر عليه من الباب خرج من النافقاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ ورجل من اليهود ‏"‏‏.‏ اليهود هو المنتسبون إلى دين موسى عليه السلام، وسموا بذلك إما من قوله‏:‏ ‏(‏إنا هدنا إليك‏)‏، أي‏:‏ رجعنا، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا، ولكن بعد التعريب صار بالدال‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ إلى محمد ‏"‏‏.‏ أي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولم يذكره بوصف الرسالة، لأنهم لا يؤمنون برسالته، ويزعمون أن النبي الموعود به سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ عرف أنه لا يأخذ الرشوة ‏"‏ تعليل لطلب التحاكم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

والرشوة‏:‏ مُثَلثةُ الراء، فيجوز الرِّشوة، والرَّشوة، والرُّشوة، وهي‏:‏ المال المدفوع للتوصل إلى شيء‏.‏

قال أهل العلم‏:‏ ‏"‏ لا تكون محرمة إلا أذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق، أما مَن بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلًا عن نفسه، فليست حرامًا على الباذل، أما على آخذها، فحرام ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ فاتفقا أن يأتيا كاهنًا في جهينة ‏"‏‏.‏ كأنه صار بينهما خلاف، وأبي المنافق أن يتحاكما إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

والكاهن‏:‏ مَن يدَّعي علم الغيب في المستقبل، وكان للعرب كُهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء، فيقولون‏:‏ سيحدث كذا وكذا، فربما أصابوا مرة من المرات، وربما أخطؤوا، فإذا أصابوا أدَّعوا علم الغيب، فكان العرب يتحاكمون إليهم، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر إلى الذين يزعمون‏.‏‏.‏‏)‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏ نزلت في رجلين أختصما، فقال أحدهما‏:‏ نترافع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال الآخر‏:‏ إلى‏:‏ كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أكذلك‏؟‏‏:‏ نعم‏.‏ فضربه بالسيف فقتله ‏"‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ وقيل ‏"‏‏.‏ ذكر هذه القصة بصيغة التمريض، لكن ذكر في ‏"‏ تيسير العزيز الحميد ‏"‏‏:‏ أنها رُويت من طرق متعددة، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولًا يُغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها‏.‏ ا‏.‏ هــ‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ رجلين ‏"‏‏.‏ هما مبهمان، فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين، ويحتمل أن يكونا من المنافقين، ويحتمل غير ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ إلى كعب بن الأشرف ‏"‏‏.‏ وهو رجل من زعماء بني النضير‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ أكذلك ‏"‏‏.‏ خبر لمبتدأ محذوف، التقدير‏:‏ أكذلك الأمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ فضربه بالسيف ‏"‏‏.‏ الضارب عمر‏.‏

وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كافر يجب قتله، ولهذا قتله عمر رضي الله عنه‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يقتله عمر رضي الله عنه والأمر إلى الإمام وهو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏؟‏

أجيب‏:‏ أن الظاهر أن عمر لم يملك نفسه لقوة غَيرته فقتله، لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ ‏.‏

* فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت‏.‏ الثانية‏:‏ تفسير آية البقرة‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض‏}‏ الآية‏:‏ الثالثة‏:‏ تفسير آية الأعراف‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏‏.‏ الرابعة‏:‏ تفسير ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏‏.‏ الخامسة‏:‏ ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى‏.‏ الأولى‏.‏ السادسة‏:‏ تفسير الإيمان الصادق والكاذب‏.‏ السابعة‏:‏ قصة عمر مع المنافق‏.‏ الثامنة‏:‏ كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

الأولى‏:‏ تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت ‏"‏‏.‏ أي‏:‏ أن الطاغوت مشتق من الطغيان، وإذا كان كذلك، فيشمل كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع، فالأصنام والأمراء والحكام الذين يُحلون الحرام ويحرمون الحلال طواغيت‏.‏

* الثانية‏:‏ تفسير آية البقرة‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون‏}‏‏.‏ ففيها دليل على أن النفاق فساد في الأرض، لأنها في سياق المنافقين، والفساد يشمل جميع المعاصي‏.‏

* الثالثة‏:‏ تفسير آية الأعراف‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏‏.‏ وقد سبق‏.‏

* الرابع‏:‏ تفسير ‏(‏أفحكم الجاهلية يبغون‏)‏‏.‏ وقد سبق ذلك، وقد بينا أن المراد بحكم الجاهلية كل ما خالف الشرع، وأُضيف للجاهلية للتنفير منه وبيان قبحه وأنه مبني على الجهل والضلال‏.‏

* الخامسة‏:‏ ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى‏.‏ وقد سبق‏.‏

* السادسة‏:‏ تفسير الإيمان الصادق والكاذب‏.‏ فالإيمان الصادق يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك‏.‏

* السابعة‏:‏ قصة عمر مع المنافق‏.‏ حيث جعل عدوله عن الترافع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبيحًا لقتله لردته، وأقدم على قتله لقوة غيرته فلم يملك نفسه‏.‏

* الثامنة‏:‏ كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ وهذا واضح من الحديث‏.‏

***

***

باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات

الجحد‏:‏ الإنكار، والإنكار نوعان‏:‏

الأول‏:‏ إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحدًا أنكر أسمًا من أسماء الله أوصفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول‏:‏ ليس لله يد، أو أن الله لم يستو على عرشه، أو ليس له عين، فهو كافر بإجماع المسلمين، لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن المللة بالإجماع‏.‏

الثاني‏:‏ إنكار تأويل، وهو أن لا ينكرها ولكن يتأولها إلى معني يخالف ظاهرها، وهذا نوعان‏:‏

1- أن يكون للتأويل مُسَوِّغ في اللغة العربية، فهذا لا يُوجب الكفر‏.‏

2- أن يكون له مُسَوِّغ في اللغة العربية، فهذا حكمه الكفر لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيبًا، مثل أن يقول‏:‏ المراد بقوله تعالى ‏{‏تجري بأعيننا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 14‏]‏ تجري بأراضينا، فهذا كافر لأنه نفاها نفيًا مطلقًا، فهو مُكذَّب‏.‏

ولو قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ المراد بيديه‏:‏ السماوات والأرض، فهو كفر أيضًا لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو مُنكر ومكذب، لكن إن قال‏:‏ المراد باليد النعمة أو القوة، فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعني، قال الشاعر‏:‏

وَكَم لِظلام الليل عندك من يَد ** تُحَدّثُ أنَّ المانَويَّةَ تَكذبُ

فقوله‏:‏ من يد، أي‏:‏ من نعمة، لأن المانوية يقولون‏:‏ إن الظلمة لا تخلق الخير، وإنما تخلق الشر‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ من الأسماء ‏"‏‏.‏ جمع اسم، واختلف في اشتقاقه، فقيل‏:‏ من السمو، وهو الارتفاع، ووجه هذا أن المسمي يرتفع باسمه ويتبين ويظهر‏.‏

وقيل‏:‏ من السّمة وهي العلامة، ووجهه‏:‏ أنه علامة على مسماه، والراجح أنه مشتق من كليهما‏.‏

والمراد بالأسماء هنا أسماء الله عز وجل، وبالصفات صفات الله عز وجل، والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمي به الله والصفة ما اتصف بها‏.‏

* البحث في أسماء الله‏:‏

المبحث الأول‏:‏

أن أسماء الله أعلام وأوصاف، وليست أعلامًا محضة؛ فهي من حيث دلالتها على ذات الله تعالى أعلام، ومن حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف ، بخلاف أسمائنا، فالإنسان يسمي ابنه محمدًا وعليًا دون أن يلحظ معني الصفة، فقد يكون اسمه عليًا وهو من أوضع الناس، أو عبد الله وهو من أكفر الناس، بخلاف أسماء الله، لأنها متضمنة للمعاني، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا‏.‏

ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ دلالة مطابقة، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به‏.‏

الثاني‏:‏ دلالة تَضَمُّن، وهي دلالته على جزء معناه‏.‏

الثالث‏:‏ دلالة التزام على أمر خارج لازم‏.‏

مثال ذلك‏:‏ الخالق يدل على ذات الله وحدات، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلاله مطابقة، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام‏.‏

كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏، فَعَلمْنَا القدرة من كونه خلق السماوات والأرض، وعَلّمنَا العلم من ذلك أيضًا، لأن الخلق لابد فيه من علم، فمن لا يعلم لا يخلق، وكيف يخلق شيئًا لا يعلمه‏؟‏ ‏!‏

المبحث الثاني‏:‏

أن أسماء الله مترادفة متباينة، المترادف‏:‏ ما أختلف لفظه واتفق معناه، والمتباين‏:‏ ما اختلف لفظه ومعناه، فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله عز وجل لأنها تدل على مسمى واحد، فالسميع، البصير، العزيز، الحكيم، كلها تدل على شيء واحد هو الله، ومتباينة باعتبار معانيها، لأن معنى الحكيم غير معني السميع وغير معني البصير، وهكذا‏.‏

المبحث الثالث‏:‏

أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور‏:‏ ‏"‏ اللهم ‏!‏ إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك‏.‏‏.‏ - إلى أن قال‏:‏ أسألك بكل أسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏)‏ ، وما أستأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يُعلَم به، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور‏.‏

وأما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أن تسعة وتسعين أسمًا من أحصاها دخل الجنة‏)‏ ، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن مَن أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله‏:‏ ‏(‏من أحصاها ‏)‏ تكميل للجمله الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول القائل‏:‏ عندي مئة فرس أعدتها للجهاد في سبيل الله، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة مُعدَّة لهذا الشيء‏.‏

المبحث الرابع‏:‏

الاسم من أسماء الله يدل على الذات وعلى المعنى كما سبق، فيجب علينا أن نؤمن به اسمًا من الأسماء، ونؤمن بما تَضَمَّنه من الصفة، ونؤمن بما تَدُلّ عليه هذه الصفة من الأثر والحكم إن كان الاسم معتدياُ، فمثلًا‏:‏ السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع، وأنه دال على صفة السمع، وأن لهذا السمع حُكمًا وأثرًا وهو أنه يسمع به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله و الله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏، أما إن كان الاسم غير متعد، كالعظيم، والحي، والجليل، فتثبت الاسم والصفة، ولا حكم له يتعدى إليه‏.‏

المبحث الخامس‏:‏

هل أسماء الله تعالى غيره، أو أسماء الله هي الله‏؟‏

إن أُريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى، فهي غير الله عز وجل، وإن أُريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ، فهي المسمي‏.‏

فمثلًا‏:‏ الذي خلق السماوات والأرض هو الله، فالاسم هنا هو المُسَمَّى، فليست ‏"‏ اللام، والهاء ‏"‏ هي التي خلقت السماوات والأرض، وإذا قيل‏:‏ اكتب باسم الله‏.‏ فكتبت بسم الله، فالمراد به الاسم دون المسمى، وإذا قيل‏:‏ اضرب زيدًا‏.‏ فضربت زيدًا المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلًا، لأن المقصود المسمى، وإذا قيل‏:‏ اكتب زيد قائم فالمراد الاسم الذي هو غير المسمى‏.‏

* البحث في صفات الله‏:‏

المبحث الأول‏:‏

تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ ذاتية ويقال معنوية‏.‏

الثاني‏:‏ فعلية‏.‏

الثالث‏:‏ خبرية‏.‏

فالصفات الذاتية‏:‏ هي الملازمة لذات الله، والتي لم يزل ولا يزال متصفًا بها، مثل‏:‏ السمع والبصر وهي معنوية، لأن هذه الصفات معانٍ‏.‏

والفعلية‏:‏ هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها،

مثل‏:‏ النزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والكلام من حيث آحاده، والخلق من حيث آحاده، لا من حيث الأصل، فأصل الكلام صفة ذاتية، وكذلك الخلق‏.‏

والخبرية‏:‏ هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، أما بالنسبة لله، فلا يقال هكذا، بل يقال‏:‏ صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة، وهي ليست معنىً ولا فعلًا، مثل‏:‏ الوجه، والعين، والساق، واليد‏.‏

المبحث الثاني‏:‏

الصفات أوسع من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة تكون اسمًا، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه، فيوصف الله بكلام والإرادة، ولا يسمي بالمتكلم أو المريد‏.‏

المبحث الثالث‏:‏

إن كل ما وصف الله به نفسه، فهو حق على حقيقته، لكن ينزه عن التمثيل والتكييف، أما التمثيل، فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 74‏]‏، والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه، لوجوه ثلاثة‏:‏

أحدهما‏:‏ أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقًا، بخلاف التشبيه، فلم يأت القرآن بنفيه‏.‏

الثاني‏:‏ أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح، لأن كل مَوجودَيْن فلا بد أن يكون بينهما قَدُر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به، فـ‏:‏ ‏"‏ الحياة ‏"‏ مثلًا وصف ثابت في الخالق والمخلوق، فبينهما قدر مشترك، ولكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق تليق به‏.‏

الثالث‏:‏ أن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيهًا، فإذا قيل من غير تشبيه، فَهمَ هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه‏.‏

وأما التكييف، فلا يجوز أن نُكيِّف صفات الله، فمن كيَّف صفة من الصفات، فهو كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه، عاص لأنه واقع فيما نهي كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه، عاص لأنه واقع فيما نهي الله عنه وحَرّمه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏.‏‏.‏ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ الآية، ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وسواء كان التكييف باللسان تعبيرًا أو بالجنان تقديرًا أو بالبيان تحريرًا، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء‏:‏ ‏"‏ الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعه ‏"‏، وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية، بل لها كيفية، ولكنها ليست معلومة لنا، لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود، فالاستواء والنزول واليد والوجه والعين لها كيفية، لكننا لا نعلمها، ففرق بين أن نثبت كيفية معينه ولو تقديرًا وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة، وهذا هو الواجب، فنقول‏:‏ لها كيفية، لكن غير معلومة‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يُتَصَوَّر أن نعتقد للشيء كيفية ونحن لا نعلمها‏؟‏

أجيب‏:‏ إنه متصور، فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها، أو شاهد نظيرها، أو أخبره شخص صادق عنها‏.‏